بين الخوف والصمت.. العنف الأسري يكشف غياب الحماية عن أطفال ليبيا
بين الخوف والصمت.. العنف الأسري يكشف غياب الحماية عن أطفال ليبيا
تتوالى في ليبيا مشاهد مأساوية تُظهر هشاشة الطفولة أمام منظومة حماية شبه غائبة، فخلف جدران المنازل المغلقة، يعيش آلاف الأطفال قصصاً لا تصل إلى العلن إلا بعد أن تنتهي بالموت، وتتقاطع الأسباب بين اضطرابات نفسية، وضغوط اقتصادية، وتراخٍ قانوني يمنح الأب سلطة مطلقة، في حين تكتفي الجهات الرسمية بالصمت أو التدخل بعد فوات الأوان.
هزّت جريمة بنغازي الأخيرة وجدان الشارع الليبي، داخل سيارة متروكة في منطقة الهواري، عُثر على جثث سبعة أطفال ووالدهم، في مشهد تقشعر له الأبدان، وكشفت التحقيقات الأولية أنّ الأب قتل أبناءه واحداً تلو الآخر، ثم انتحر، بحسب ما ذكرت وكالة "JINHA"، اليوم الاثنين.
وبحسب شهادات الأقارب والمعلمات، لم تكن الحادثة وليدة لحظة غضب، بل تتويج لمسار طويل من العنف والتعذيب المنزلي من الأب تجاه الأطفال.
تقول فايزة مهيوس، خالة الأطفال، وهي تتحدث بمرارة: "حاولنا مراراً استعادة حضانتهم عبر أحكام قضائية مختلفة، لكن التزوير والرشاوى منعت تنفيذها.. كانوا يتعرضون للضرب المتكرر وكسر الأسنان والرأس، وأحياناً باستخدام أدوات منزلية.. كنا نخشى أن نشتكي أكثر لأن الأب كان يهددهم حتى عبر الهاتف".
قرار قضائي بلا تنفيذ
ورغم صدور قرار قضائي بنقل الحضانة، لم تنفذه السلطات، تاركة الأطفال في مواجهة القدر.. تقول فايزة إنهم أصبحوا "عاجزين عن الحركة خوفاً من العنف، وكانوا يعيشون في رعب دائم".
حادثة مشابهة في مصراتة كشفت المأساة ذاتها.. أب يحتجز أطفاله بعد الطلاق ويرفض تسليمهم للأم، ليصبحوا ضحايا مباشرة للانفلات الأسري وغياب الرقابة. كلا القصتين تكشفان عجز الدولة عن حماية أكثر الفئات ضعفاً.. الأطفال.
وبحسب تقارير حقوقية، ارتفعت حالات العنف الأسري في ليبيا بنسبة 30% خلال عام 2023، مع تسجيل أكثر من 1500 حالة موثقة. ومع غياب الإحصاءات الرسمية الدقيقة، تُرجّح المنظمات الحقوقية أن الأرقام الحقيقية أكبر بكثير.
وأكد تقرير البنك الدولي أن ليبيا لا تمتلك حتى الآن تشريعات كافية لمكافحة العنف الأسري أو جرائم قتل النساء (الفيميسايد)، في حين تشير منظمات مثل "هيومن رايتس ووتش" و"محامون من أجل العدالة" إلى أن مؤسسات حماية الأسرة والطفل في البلاد تعمل في نطاق إداري محدود، يقتصر على تلقي الشكاوى دون توفير مراكز إيواء أو خدمات دعم حقيقية.
في بلدٍ تعصف به الأزمات السياسية والانقسامات، تبدو حماية الأسرة آخر الأولويات، لتظل الطفولة الحلقة الأضعف في سلسلة الصراع الاجتماعي والاقتصادي.
أسر تعيد إنتاج الألم
ترى تودد الأخضر، طالبة ماجستير في علم النفس ومعلمة في إحدى مدارس طرابلس، أن العنف داخل الأسرة لا يحدث فجأة، بل هو "انعكاس لمعاناة أعمق".
توضح: "كثير من الآباء الذين يمارسون العنف اليوم كانوا هم أنفسهم ضحايا له في طفولتهم، أو يعانون من اضطرابات نفسية غير معالجة. الفقر والإدمان والبطالة كلها عوامل تضغط على الأهل وتجعلهم يفرغون عجزهم في أطفالهم".
وتضيف أن المدرسة قد تكون الملجأ الأول لاكتشاف الطفل الضحية: "دور الأخصائي النفسي أساسي، عليه مراقبة الطفل المنعزل أو العدواني، ومحاولة فهم سلوكه. يمكن دعمه عبر اللعب والتعبير عن الذات والأنشطة الجماعية التي تبني الثقة والشجاعة.. المهم ألا يُترك الطفل وحيداً أمام الخوف".
أرواح تضيع بصمت
لا تزال القوانين الليبية تمنح الأب سلطة شبه مطلقة في الحضانة والولاية، حتى في حالات العنف المثبتة. ورغم وجود قرارات قضائية لصالح الأمهات، فإن التنفيذ غالباً ما يتعطل بسبب الفساد الإداري أو النفوذ الاجتماعي.
ويؤكد نشطاء حقوقيون أن غياب منظومة حماية متكاملة تضم مراكز إيواء، وخطوط طوارئ فاعلة، ورقابة قانونية صارمة، يجعل الأطفال عالقين بين مؤسسات بطيئة وأسر مفككة.
من داخل المآسي، ترتفع أصوات قليلة تطالب بإنقاذ الطفولة الليبية قبل أن تُمحى ملامحها. تدعو المنظمات المحلية إلى اعتماد قانون وطني لحماية الطفل يتماشى مع اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل، وإلى تفعيل برامج الدعم النفسي والاجتماعي للضحايا، خصوصاً في المدارس والمراكز المجتمعية.











